خطة توطين سكان غزة في الصومال.. عندما يتحول التهجير القسري إلى مشروع اقتصادي
أعدتها مجموعة بوسطن الاستشارية
في تطور مثير للجدل تبيّن أن مستشارين من مجموعة بوسطن الاستشارية (BCG) قد أعدّوا نموذجًا يتناول سيناريوهات ما بعد الحرب في قطاع غزة، متضمنًا تقديرات لنقل مئات الآلاف من سكان غزة إلى دول مثل الصومال وأرض الصومال، في خطة وُصفت بأنها "إعادة توطين مؤقتة"، لكنها أثارت موجة من الانتقادات الدولية باعتبارها محاكاة للتطهير العرقي.
وفقًا لتقرير نشرته صحيفة “فاينانشيال تايمز”، أنشأ مستشارو BCG جدول بيانات معقدًا بتكليف من مجموعة من رجال الأعمال الإسرائيليين الذين كانوا يخططون لإعادة إعمار غزة بعد الحرب مع حماس، تضمّن النموذج دولًا مثل الصومال، أرض الصومال، مصر، الأردن، والإمارات العربية المتحدة وجهات محتملة لإعادة توطين الفلسطينيين، وورد في الوثائق أن نحو 25% من سكان غزة قد يختارون مغادرة القطاع طواعية، وأن الغالبية العظمى منهم لن يعودوا.
هذه الخطة، بحسب العرض الذي أعده رجال الأعمال، كانت موجهة للإدارة الأمريكية وجهات إقليمية، وتوقعت أن تستفيد الدول المستقبِلة للاجئين الفلسطينيين اقتصاديًا بما يصل إلى 4.7 مليار دولار خلال السنوات الأربع الأولى من تنفيذ البرنامج.
تقديرات تكاليف التوطين
وقدّمت BCG تقديرات دقيقة لتكاليف إعادة التوطين، بما في ذلك إعانات الإيجار والغذاء، وتفاوتت تلك التكاليف من دولة إلى أخرى.
وعدت الخطة أن هذه الاستثمارات في إعادة إعمار غزة ستدرّ عائدات على مدى عشر سنوات من خلال قطاعات متعددة مثل الإسكان والبناء، والأمن، والتصنيع، والرعاية الصحية، والبنية التحتية.
كما أدرج النموذج عناصر تنموية مثل عدد الأسرة في المستشفيات، وعدد الأطفال في المدارس، ونمو الناتج المحلي الإجمالي.
وكان العمل على هذا النموذج قد ارتبط بمشروع أوسع تولت فيه مجموعة بوسطن الاستشارية دورًا رئيسيًا، وهو تأسيس "مؤسسة غزة الإنسانية" (GHF)، وهي كيان بديل للنظام الإنساني الذي تقوده الأمم المتحدة في غزة.
انتقادات من المجتمع الدولي
حظيت المؤسسة بدعم من إسرائيل والولايات المتحدة، إلا أن المشروع تعرض لانتقادات واسعة من المجتمع الإنساني الدولي، واعتُبر محاولة لتسليح المساعدات الإنسانية خدمة لأهداف الحرب الإسرائيلية.
لاحقًا، ومع تصاعد الانتقادات، أوقفت BCG مشاركتها في المشروع في مايو، كما طردت الشركاء الذين شاركوا في إعداد النموذج، مشيرةً إلى أنهم أخفوا طبيعة العمل عن إدارتهم، وأن المشروع أُجري سرًا ومن دون موافقة الشركة.
وذكرت الشركة أمام لجنة برلمانية بريطانية أن الشريك الرئيسي طُلب منه الامتناع عن أي أعمال لا تشمل إشراك السكان المتضررين، إلا أنه خالف التوجيهات.
على خلفية هذه الفضيحة، علّقت منظمة "إنقاذ الطفولة" شراكتها الطويلة مع مجموعة بوسطن الاستشارية، وفي رسالة داخلية مؤرخة في 8 يوليو، وصفت الرئيسة التنفيذية للمنظمة، إنغر آشينغ، سلوك BCG بأنه "غير مقبول بتاتًا"، مستنكرةً حساب تكلفة تهجير الفرد من سكان غزة ومقارنتها بتكاليف إعادة الإعمار.
تجاهل الحقوق والكرامة
وبحسب منصة "ذا نيو هيومانيترين" اعتبرت "إنقاذ الطفولة" أن العمل "مجرد من الإنسانية، ويتجاهل الحقوق والكرامة، ويثير تساؤلات قانونية وأخلاقية جسيمة".
وذكرت المتحدثة باسم المنظمة، بليندا غولدسميث، أن BCG شاركت في إنشاء مؤسسة GHF، وأن متعاقدين مسلحين كانوا يعملون في مواقع المؤسسة بغزة، ما أدى إلى مقتل أكثر من 500 فلسطيني وإصابة الآلاف منذ بدء عمل المؤسسة في مايو، بحسب منظمة العفو الدولية، التي وصفت النموذج بأنه جزء من جرائم الحرب والإبادة الجماعية المستمرة.
وحاولت BCG التملص من المشروع، مشيرة إلى أنه أُنجز خارج إطارها الرسمي، دون تقاضي أي أجر، وأنه لا يمثل وجهة نظر الشركة. وأكدت أن الموظفين الذين نفذوه ضللوا إدارتهم بشأن طبيعته.
تاريخيًا، تعاونت BCG مع منظمة "إنقاذ الطفولة" منذ عام 2006، وشاركت في تقديم دعم تنظيمي واستشاري عالي المستوى، ويُعد هذا الانفصال المفاجئ ضربة قوية لسمعة BCG في القطاع الإنساني، خاصةً أنها عملت سابقًا مع منظمات كبرى مثل برنامج الأغذية العالمي، ومنظمة الصحة العالمية، ولجنة الإنقاذ الدولية.
الإغاثة ضمن أجندات سياسية
يشير هذا الجدل إلى إشكالية عميقة في تدخل شركات الاستشارات الإدارية في عمليات الإغاثة، حيث تُستخدم خبراتها في التصميم والتنظيم ضمن أجندات سياسية، ووفقًا لتقرير سابق لمنظمة "أطباء بلا حدود"، فإن الاعتماد على القطاع الخاص في عمليات الإغاثة قد يؤدي إلى تسييس المساعدات، ويهدد مبادئ الحياد والاستقلالية.
وفي ظل هذه الفضيحة، تتزايد المطالبات بإعادة تقييم دور الشركات الخاصة في المجال الإنساني، وضمان خضوعها للرقابة والمساءلة، خاصة عندما يتعلق الأمر بخطط تمس حياة ملايين البشر، مثل إعادة التوطين أو تغيير التركيبة السكانية لمناطق النزاع.
وتُظهر هذه القضية كيف يمكن لأفكار تُطرح خلف أبواب مغلقة، أن تتحول إلى مشاريع ذات طابع إقصائي واستيطاني، تستند إلى نماذج إحصائية باردة تتجاهل الكرامة الإنسانية والحقوق الأساسية، وتبقى غزة، مرة أخرى، ساحة لتجارب تُنفّذ على حساب سكانها.